" أغوح لماريو بس هو يفهم علينو ! "
" أي غوح لجهنم ! "
" أي أغوح لجهنم... " رد " أمل " على عمته هيلا بمزيد من الغضب : " أحسنلي من الغوحة ليسرائيل!"
أسرع إلى غرفته صافقاً الباب وراءه بقوة. تحمحم قليلاً كأنه يريد الدخول إلى المرحاض، وهي العادة التي لا تفارق كبار السن، وتشبه الإشارة التي يجب أن تُعطى للتأكد أن أحداً لا يشغل المرحاض في ذلك الحين. وقف أمام المرآة، وعلى الرغم من أنه لا يزال متوتراً، لكنه بدأ بمزاولة تمرينه المعتاد منذ ثلاثة أيام، على سرد قصته لماريو فارغاس يوسا الذي يأمل بمقابلته خلال اليومين المقبلين في بغداد، فجاء صوته مشحوناً بالنبرة الغاضبة نفسها عندما كان يكلم عمته :
" عفواً سيدي !
هلا سَمعتني رجاء ؟ لقد قطعت مسافة طويلة جدا، لا لشيء سوى أن أروي لك حكاية، ولا تسألني عن مقدار المسافة تلك، لأني حقاً لا أعرف كم تساوي بالضبط، لكن يمكن القول أنها عبارة عن تلك المسافة التي تمتد من زاخو إلى الفاو، هذا في حال أنك ما زلت مقيماً في أربيل. وبهذه المناسبة أريد أن أنبهك إلى مسألة مهمة، وهي أنك إذا سمعت في طريقك مثل هذه العبارة ( من زاخو إلى الفاو ) التي تتردد كثيرا هذه الأيام، أو على الأقل هكذا تقال في القصائد والأهازيج والأغاني الوطنية البائتة والخطب السياسية الرنانة، فلا تصدقها أبداً، فكلها ترهات يتقول بها المطربون والشعراء الشعبيون وشيوخ العشائر وبقاقلة السياسة لدينا، ويريدون منها الدلالة الزائفة على الوحدة الوطنية البائسة واللحمة بين أبناء الشعب الواحد من الجنوب إلى الشمال "
عدّل " أمل" ياخة قميص النوم المخطط بالأزرق الفاتح الذي كان يرتديه ورتب شعره بيديه كما لو أن ثمة من يوشك أن يلتقط له صورة في تلك الاثناء. سمع عمته وهي تهمهم وتردد كلمات لم تزل تكررها منذ دخول الجيش البريطاني إلى البصرة في نيسان الماضي :
" غاح يجون.. هياتهم بالدغب. أبدالك موشي تال وياي تغا يقتلونك "
إلا أن " أمل " لم يسمعها، أو أنه سمعها لكنه لم يعقب كما يفعل دائماً بعد كل مرة تُكلّم فيها نفسها ويظن أنها تشتمه، إنما راح يكمل تمرينه على نحو أكثر جدية، وكأن ماريو ماثلاً أمامه فعلاً ويسمعه :
" حسناً يا سيد ماريو.
سبق أن قلت لك، في الأيام الثلاثة الماضية، إنه لمن المفرح أن تزور شخصية مشهورة وروائياً كبيراً مثلك بلدي، طبعاً برفقة ابنتك مورجانا. ليحفظها الله. الأمر الذي دفعني للتفكير في استغلال هذه الزيارة وألتقي بكَ لأخبرك بقصة غريبة تصلح كمادة خام لكتابة رواية. وذلك لاعتقادي أنه ليس من المناسب أن يدخل روائي حاذق مثلك إلى العراق ويخرج منه وليس في حقيبته سوى بعض الصور واليوميات والمشاهدات يمكن أن يكتبها رحّالة أو سائح أو ربما جندي محتل.
نعم ؟
ماذا قلت ؟
هل قلت لماذا لا أكتبها أنا ؟
حسناً، سأجيبكَ طبعاً وأرجو أن تأخذ كلامي على محمل الجد وتتأكد أنه حقيقي وليس من قبيل المماراة :
أنا يا سيدي، وأحلف لك بشرفي، لم أكتب من قبل قصة واحدة، حتى تلك التي تتألف من ست كلمات، وسبق أن كان همنغواي أول من كتبها. تلك التي تبدو مثل يرقان يسبح في جوف تفاحة. ولنفترض أني سأكون قادراً على الكتابة، هل تظنّ أني سأنجح ؟ نعم، قد أكتب شيئاً مميزاً، لكن من يأبه في النهاية ؟ وعلى هذا الأساس يجب أن تثق بأن الأمر سيكون مختلفاً تماماً في حال كتبت أنت هذه القصة. وسأكون مطمئناً بأن العالم سيقرؤها. فأنا يا سيد يوسا رجل بسيط ومتواضع لا أرقى إلى ما وصلتم إليه من قوة البديهة والقدرة العالية على التعبير، وما زلت آمل أن تخرج قصتي إلى النور على أيدي أحد الصناع المهرة للروايات، حتى جئت أنت فتأملت خيراً، وهرعت إلى بغداد للقائك، حيث سمعت في الطريق أنك توجهت من أربيل إلى العاصمة لتكمل هناك كتابة يومياتك عن العراق.
عفواً، هل قلت أنها قصتي ؟
نعم بالتأكيد، إنها قصة حياتي يا سيدي. قصة فريدة ومختلفة ستعجبك، وستشعر أنك مدين لي بالشيء الكثير، إذا ما حصل وكتبتها. وصدقني، لن أطالبك بأي ريع مقابل ذلك. أنا فقط أريد أن يقرأ العالم قصتي العجيبة. وعندما أقول أنها عجيبة، فأنا أعني ذلك حقاً، وليس من قبيل الدعاية أو الترغيب طمعاً في مال أو شهرة.
لا زال المدعو ميغويل ريس بالينسيا، تعرفه ؟ يخوض معركة يبدو أنها ستكون طويلة وخاسرة، من أجل إثبات أن " قصة موت معلن " هي نفسها قصة حياته الحقيقية، وأن غابيتو سرقها أو استعارها من دون عقد مسبق بينهما، وابتلع حقوقه فراح يطالب بتعويضه بثروة هائلة فضلاً عن اعتماد اسمه رسميا ككاتب مشارك. أما أنا، فأودّ أن أطمئنك يا سيدي بأني لن أكون مستعداً لخوض هكذا معارك خاسرة وطويلة، ثم أخرج منها بخفيّ حنين، تماماً كما تريد أنت أن تخرج من العراق بحفنة من اليوميات والمشاهدات الصحفية ومجموعة من الصور التي التقطتها ابنتك مورجانا، بينما قصص الألف ليلة وليلة المرعبة على مرمى قدمٍ منك، في حلبجة، وإذا اتجهت جنوباً لرأيت الأفدح، حيث المقابر الجماعية والأقبية السرية وأطفال اللوكيميا هناك، كلاً منهم يحكي تاريخاً من الدم والحرب. في كل الأحوال، لم يكن صديقك غابيتو ليخسر شيئاً في حال أنه أغلق فم المدعو بالينسيا بالمبالغ التي لا زال ينفقها على المحامين حتى الآن، لكنه رفض الاستسلام، وربما سيصاب بالخرف ويموت في النهاية، وتلك القضية لم تُحسم بعد. عنيد غابيتو هأ هأ هأ ! اعتذر منك، لا أريد أن أكون سمجاً، لكن يقال أن الهالة السوداء التي ظهرت حول عين غابيتو في إحدى صوره سببها أنت ! تُرى، بماذا استفزك لتلكمه هكذا ؟ يقال والعهدة على الراوي أنه همس في إذن زوجتك عندما كنتم جميعكم تشاهدون فيلما في إحدى دور السينما في المكسيك وقال لها : كيف أمكنكِ احتمال هذا الرجل ! هل حقاً حصل هذا يا سيد ماريو ؟ "
" غاح يجون ! " يأتي صوت العمة من وراء الباب ويحطّ في إذنيه بإحساس معتم لم يستطع الإفلات منه: " غاح يجون وأغوح وياهم، مظل ألنا عيشيي بهالعزا مالم، يا حيف على ذيكي الأيام غاحت ! "
كان " أمل " قد صمت وتشتت أفكاره لحظة قاطعه ذلك الصوت الذي كان خفيفاً، كأنه انبعث من آلة وترية، وتخللت نهايته بعض المطبات، حتى صار بإمكانه إيهام السامع في تلك اللحظة أنه صوت ماعز. ولا زال " أمل " على وقفته تلك أمام المرآة، لكنه شبك ذراعيه على صدره ومال برأسه قليلاً، بينما كانت عيناه جاحظتين باتجاه الباب، حيث ترقد وراءه العمة على كنبة متهرئة في الهول. وقد برطم شفته السفلى وقطب حاجبيه، قبل أن يعتق نفسه من حالة الصمت التمثيلي تلك، ويخرج من الغرفة.
اصطدمت نظرته الحانقة بعيني المرأة العجوز.
" غاح يجون لَكَنْ ؟ " سألها وكأنه يسخر
" أي وغاح اتشوف ! "صاحت به هيلا : " وانتا تغوح وياي، غاح تمشي أموراتنا وكل شين يقعد بمكانو"
" أنا أش أغوح أسوي ويا هذولي الصهاينة ؟ " يسألها حانقاً.
" وي غماد ! " تولول العمة بغضب : " مندال ما تبقا هوني تال وياي، قتغيد تقعد هوني يذبحونك ؟! "
" ما أغوح لأي مكان " صاح هو أيضاً بصوت حاول ألا يعلو حتى لا يبدو كأنه ينهرها : " غوحي أنتي أنا اغوح لماريو ! "
عاد " أمل" إلى غرفته وأغلق الباب بعنف، ثم اتكأ عليه صامّاً أذنيه بيديه كي لا يسمع عمته وهي تولول. لم يبق على هذا الحال وقتاً طويلاً. رفع يديه عن أذنيه وفتح عينيه وراح ينصت إلى خطوات عمته وهي تنسحب إلى غرفتها مرددة بصوت عال :
" إسليمة تكرفك ! "
في حين عاد هو ليجلس أمام المرآة واستأنف تمرينه السردي الشفاهي، مفترضاً أنه يتحدث إلى ماريو :
" حسناً يا سيد ماريو. هل أخبرك شيئاً ؟ أرجو منك المعذرة إذا لاحظتَ أن كلامي يشوبه بعض التلكؤ كأن أُبطئ أحياناً أو أستغرق بالصمت لبضع ثوانٍ ألعق خلالها شفتيّ. أعتقد بل أكاد أجزم أن من حقي أن أرتبك. ولا أظن أن أحداً يمتلك الجرأة ليدعي أنه لا يرتبك أمام ماريو فارغاس يوسا.
نعم ؟
ماذا ؟
أها ! نعم، ماريو بارغاس يوسا.. هكذا أفضل ؟ أعتذر منك يا سيد ماريو. خطأ غير متعمد.. أرجو المعذرة. إذن، لا أحد بوسعه عدم الارتباك أمام ماريو بارغاس يوسا، مع أن هناك من صار بإمكانه مؤخراً أن يقف أمامك في أحد معارض الكتب ويقوم بتمزيق كتبك وأنت تنظر إليه بعينين أكلهما الذهول بينما هو يفعل ذلك منتقداً مواقفك السياسية.
ممممممم ! أنا أعرف أنك صديقاً حميماً لإسرائيليين. هل تعلم ؟ كنت أحتفظ بصورك التي تظهر فيها وأنت تتسلم جائزة القدس في تل أبيب، وصور أخرى جمعتك مع شمعون بيريز كانت عمتي هيلا قد أزاحتها عن الجدار في غرفتي حيث كنت ألصقها هناك مع صور أخرى متفرقة التُقطت لك في مناسبات عديدة. ثم قامت بتمزيقها قبل أن تلقي بها في سلة النفايات. ولك أن تتصور امرأة يهودية تعيش في بلد مثل العراق وتقع عينها على صورة لشمعون بيريز معلقة على أحد جدران بيتها، في الوقت الذي كان صدام حسين يبحث عن قطعة أرض مجاورة لاسرائيل ليتمكن من إحراقها.
يا إلهي ! يبدو أني أسهبت في سرد أشياء غير سارة بالنسبة لك.. هل أسأت الأدب ؟ أه، سحقاً لي ! أكرر اعتذاري يا سيد ماريو. والآن دعنا نعود إلى موضوعنا الرئيسي.
حسنا.. ليكن..
من أين تريدني أبدأ ؟
لكن، قبل أن أبدأ عليَّ أن ألفت انتباهك إلى أني أخبرك بالقصة. أُخبرك إخباراً ولا أروي. لذا عليك الإيمان بضرورة ألا تكون أحداث هذه القصة من نسج الخيال، أو تظنها إحدى تلك الفذلكات التي تتفنون بها أنتم الرواة الأذكياء من أجل إمتاع الناس. فأنا لا أكذب يا سيد ماريو، ولا تظن أني استمتع بإخبارك قصتي العجيبة لكني أؤمن أيضاً بجدوى كتابتها من قبل شخصٍ حاذقٍ وعلى مستوى رفيع من الذكاء والشهرة. روائي مثلك خَبَرَ الحياة والفن بشكل جيد، وترشح للانتخابات الرئاسية في البيرو، واستبدل زوجته بأخرى، وانقلب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ولم يرفّ له جفن، وجاب البلدان وكتب عن الدكتاتورية بوصفها ممحاة لحياة الشعوب. فعلى هذا الأساس أرجو أن تأخذ ما سأخبرك به على محمل الاهتمام، فأنا في النهاية لست مجنوناً أو أهذي كما يدعون، ولا أؤلف ولا أحب حتى المزاح. "
" أما ألعابكم السحرية تلك، التي أذهلت العالم وسحبتم بها البساط من أوربا وأمريكا، كما فعل في إثركم الكتاب المهجنين الذين نقلوا الآداب الأفرو آسيوية إلى تلك البقاع، فلم تدهشني إلى الحد الذي قد أقف عنده عاجزاً عن تقبل فكرة أن تطير ريميديوس في مائة عام من العزلة لماركيز. ربما أدهشتني فعلاً، لكني لم أستغرب، أو أشعر حيالها بحالة قصوى من الانبهار، ما دام أنها تشبه كثيراً تلك التي لدينا، وكنّ يروينها من قبل الجدات، شهرزاداتنا الأميّات اللائي كان بوسعهنّ أن يروين أساطير الأجداد بالطريقة نفسها التي تروون بها أنتم، ويحدث ذلك في الوقت الذي يتشمسن ويصنعن لأحفادهنّ دمى طينية.
لا علينا يا سيد ماريو...
قاربت الساعة الآن أن تكون العاشرة مساء. لا بدّ أنك متعب. سأتركك ترتاح، على أن نستأنف غداً حديثنا.
إلى اللقاء يا سيد ماريو... "
خرج " أمل " من غرفته بعد إنهاء حديثه الذي من المفترض أن يرويه ليوسا عندما سيذهب للقائه. خروجه من الغرفة كان مشهداً تمثيلياً، أداه على نحو ينمّ إما عن جنون أو موهبة. عاد بعدها بعينين ذابلتين، ويتثاءب. وقد تساءل في نفسه عما إذا كانت عمته هيلا قد شتمته بتلك العبارة التي راحت ترددها باللهجة العراقية.